المركز الإعلامي العام – رجاء شبيب
عندما تذكر معرة النعمان تقفز بك الذاكرة مباشرة إلى عمق التاريخ الذي اشتهرت به هذه المدينة على المستوى الأدبي والفكري كيف لا، وأبو العلاء المعري انحدر منها وملأ سيطه أرجاء المعمورة ثقافة وفكرا نيراً ممثلاً أصالة المعرة وحضارتها، وبعد انطلاق الثورة السورية أثبتت معرة النعمان أنها مدينة عصية على الطغيان ترفض الذل والهوان فكان من قدرها المؤلم أن تدفع ثمن صمودها بأن تقدم أبناءها فدية ثمينة في سبيل رسم مستقبل مشرق يحافظ على تراث الأجداد وأصالته العريقة ،ولذلك انصب جام غضب النظام وأدواته الفتاكة في محاولة تركيع شعبها الأبي من خلال المجازر اليومية التي لا تقتصر على قتل الأبرياء المدنيين بل تهدف إلى محو أي مظهر من مظاهر العراقة والتراث الأصيل الذي لطالما كان محجة لكل زائر وشاعر ومستشرق، واذا أردنا أن نحصي عدد المجازر المروعة التي عصفت بالمدينة فلربما تخوننا الذاكرة لحصرها من حيث الخسائر المادية والبشرية ،ومن هذه المجازر التي علقت بالأذهان ولم يمحها الزمن المجزرة التي طائرات حربية من طراز su24 بتاريخ 12/2016عندما قصفت طائرات النظام سوقاً شعبياً وسط المدينة موقعةً عدداً من الضحايا المدنيين معظمهم من الأطفال والنساء ودماراً واسعاً في العمران، ومن هؤلاء الضحايا الطفل “ليث النهتان” البالغ من العمر ست سنوات، وما يجعل الخبر أكثر تأثيراً أن والد الطفل كان برفقته لأثناء الغارة وهو الذي حمله بقصد إسعافه لتفارق روح الطفل جسده وهو بين يدي أبيه، أي ألم عاشه والد ليث بفقده لولده بلحظة غدر مفاجئة عكست صورة الأب الذي يحمل ولده فرحاً به إلى صورة أب مذهول يحمل ولده شهيداً إلى مقابر الشهداء.
تتوالى الأيام وتزداد جرعات المرارة وتتراءى صورة ليث في مخيلة والده وهو يحتضر ليتكرر المشهد بعد ثلاث سنوات في ذات المكان مع اختلاف الزمان فها هو حسام والد ليث يقع ضحية قصف روسي همجي حاقد من ذات المجرم، فأي مستقبل وأي حياة تنتظر عائلة حسام الذي استشهد بعد ابنه تاركاً خلفه جرحاً عميقاً لن يندمل بانقضاء السنين.
إن هذا الحدث الجلل بتراجيديته الأليمة يشخص معاناة كل الأسر السورية فقلما تجد بيتاً إلا وقد أصبح مكلوماً بفقد شهيد أو سجين أو مفقود لا يعلم حاله.
إن هذا الحدث لهو غيض من فيض المعاناة التي عصفت بهذا البلد الجريح، ولكنه في ذات الوقت يعتبر البذرة التي ستنبت جيلاً حراً يرسم مستقبله بقطرات الدم وبدموع الثكالى وآهات التفجع، والتاريخ هو أكبر شاهد على عظمة هذا البلد وأهله الذين يرسمون الأمل من باطن الألم.